فصل: تفسير الآيات رقم (73 - 76)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏73 - 76‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏

لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة، قال لهم إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض، وما كنا سارقين، أي‏:‏ ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة، فقال لهم الفتيان‏:‏ ‏{‏فَمَا جَزَاؤُهُ‏}‏ أي‏:‏ السارق، إن كان فيكم ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه‏؟‏ ‏{‏قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏ وهكذا كانت شريعة إبراهيم‏:‏ أن السارق يدفع إلى المسروق منه‏.‏ وهذا هو الذي أراد يوسف، عليه السلام؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله، تورية، ‏{‏ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ‏}‏ فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ‏}‏ أي‏:‏ لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره‏.‏

وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم؛ ولهذا مدحه تعالى فقال‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ ليس عالم إلا فوقه عالم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل‏.‏ وكذا رَوَى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال‏:‏ الحمد لله فوق كل ذي علم عليم ‏[‏فقال ابن عباس‏:‏ بئس ما قلت، الله العليم، وهو فوق كل عالم‏]‏ وكذا روى سماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم‏.‏ وهكذا قال عكرمة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله ‏"‏وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏

وقال إخوة يوسف لما رأوا الصّواع قد أخرج من متاع بنيامين‏:‏ ‏{‏إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يتنصلون إلى العزيز من التشبه به، ويذكرون أن هذا فعل كما فَعَل أخ له من قبل، يعنون به يوسف، عليه السلام‏.‏

قال سعيد بن جبير، عن قتادة كان يوسف قد سرق صنما لجده، أبي أمه، فكسره‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال‏:‏ كان أول ما دخل على يوسف من البلاء، فيما بلغني، أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، فكان من اختباها ممن وليها كان له سَلَما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء وكان يعقوب حين ولُد له يوسف قد حضنته عمته، فكان منها وإليها، فلم يُحب أحدٌ شيئا من الأشياء حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات وقعت نفس يعقوب عليه فأتاها، فقال‏:‏ يا أخيَّه سلّمى إليّ يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة‏.‏ قالت‏:‏ فوالله ما أنا بتاركته‏.‏ ثم قالت‏:‏ فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه، لعل ذلك يسلّيني عنه -أو كما قالت‏.‏ فلما خرج من عندها يعقوب، عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت‏:‏ فقدت منطقة إسحاق، عليه السلام، فانظروا من أخذها ومن أصابها‏؟‏ فالتمست ثم قالت‏:‏ اكشفوا أهل البيت‏.‏ فكشفوهم فوجدوها مع يوسف‏.‏ فقالت‏:‏ والله إنه لي لسَلَمٌ، أصنع فيه ما شئت‏.‏ فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر‏.‏ فقال لها‏:‏ أنت وذاك، إن كان فعل ذلك فهو سَلَم لك ما أستطيع غير ذلك‏.‏ فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت‏.‏ قال‏:‏ فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه‏:‏ ‏{‏إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الكلمة التي بعدها، وهي قوله‏:‏ ‏{‏أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ تذكرون‏.‏ قال هذا في نفسه، ولم يبده لهم، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر، وهو كثير، كقول الشاعر‏:‏‏}‏

جَزَى بَنُوه أبا الغيلان عن كبَرٍ *** وحسْن فعل كما يُجزَى سنمّار

وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة، في منثورها وأخبارها وأشعارها‏.‏

قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ‏}‏ قال‏:‏ أسر في نفسه‏:‏ ‏{‏أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78 - 79‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ‏}‏

لما تعين أخْذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم، فـ ‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا‏}‏ يعنون‏:‏ وهو يحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذي فقده، ‏{‏فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ‏}‏ أي‏:‏ بدله، يكون عندك عِوَضًا عنه، ‏{‏إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ من العادلين المنصفين القابلين للخير‏.‏ ‏{‏قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ كما قلتم واعترفتم، ‏{‏إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ إن أخذنا بريئا بسقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80 - 82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن إخوة يوسف‏:‏ أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين، الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه، وعاهدوه على ذلك، فامتنع عليهم ذلك، ‏{‏خَلَصُوا‏}‏ أي‏:‏ انفردوا عن الناس ‏{‏نَجِيًّا‏}‏ يتناجون فيما بينهم‏.‏

‏{‏قَالَ كَبِيرُهُمْ‏}‏ وهو رُوبيل، وقيل‏:‏ يهوذا، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله، قال لهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ‏}‏ لتردنَّه إليه، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه، ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ‏}‏ أي‏:‏ لن أفارق هذه البلدة، ‏{‏حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي‏}‏ في الرجوع إليه راضيًا عني، ‏{‏أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي‏}‏ قيل‏:‏ بالسيف‏.‏ وقيل‏:‏ بأن يمكنني من أخذ أخي، ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏‏.‏

ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه، ويبرءوا مما وقع بقولهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ‏}‏ قال عكرمة وقتادة‏:‏ ما ‏[‏كنا‏]‏ نعلم أن ابنك سرق‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ما علمنا في الغيب أنه يسرق له شيئا، إنما سألنا ما جزاء السارق‏؟‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا‏}‏ قيل‏:‏ المراد مصر‏.‏ قاله قتادة، وقيل‏:‏ غيرها، ‏{‏وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ التي رافقناها، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا، ‏{‏وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ فيما أخبرناك به، من أنه سرق وأخذوه بسرقته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83 - 86‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏

قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب‏:‏ ‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما يجري اتهمهم، وظن أنها كفعلتهم بيوسف ‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول، سُحب حكم الأول عليه، وصح قوله‏:‏ ‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏

ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة‏:‏ يوسف وأخاه بنيامين، وروبيل الذي أقام بديار

مصر ينتظر أمر الله فيه، إما أن يرضى عنه أبوه فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ‏}‏ أي‏:‏ العليم بحالي، ‏{‏الْحَكِيمُ‏}‏ في أفعاله وقضائه وقدره‏.‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ‏}‏ أي‏:‏ أعرض عن بنيه وقال متذكرا حُزنَ يوسف القديم الأول‏:‏ ‏{‏يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ‏}‏ جَدَّد له حزنُ الابنين الحزن الدفين‏.‏

قال عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن سفيان العُصْفُريّ، عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ لم يعط أحد غيرَ هذه الأمة الاسترجاع، ألا تسمعون إلى قول يعقوب، عليه السلام‏:‏ ‏{‏يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق قاله قتادة وغيره‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ كميد حزين‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة ‏[‏حدثنا أبو موسى‏]‏، عن علي بن زيد عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن داود عليه السلام، قال‏:‏ يا رب، إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني لهم رابعا‏.‏ فأوحى الله تعالى إليه أن يا داود، إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن إسحاق بذل مهجة دمه في سببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه حتى ابيضت عيناه من الحزن، فصبر، وتلك بلية لم تنلك‏"‏‏.‏ وهذا مرسل، وفيه نكارة؛ فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح، ولكن علي بن زيد بن جُدْعَان له مناكير وغرائب كثيرة، والله أعلم‏.‏

وأقرب ما في هذا أن يكون قد حكاه الأحنف بن قيس، رحمه الله، عن بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما، والله أعلم، فإن الإسرائيليين ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رده، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء، فإبراهيم ابتلي بالنار، وإسحاق بالذبح، ويعقوب بفراق يوسف، في حديث طويل لا يصح، والله أعلم، فعند ذلك رق له بنوه، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه‏:‏ ‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ‏}‏ أي‏:‏ لا تفارق تَذَكُّر يوسف، ‏{‏حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا‏}‏ أي‏:‏ ضعيف الجسم، ضعيف القوة، ‏{‏أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ‏}‏ يقولون‏:‏ وإن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أجابهم عما قالوا بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي‏}‏أي‏:‏ همي وما أنا فيه ‏{‏إِلَى اللَّهِ‏}‏ وحده ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أرجو منه كل خير‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يعني رؤيا يوسف أنها صدق وأن الله لا بد أن يظهرها وينجزها‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سوف أسجد له‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنَيَّة، عن حفص بن عمر بن أبي الزبير، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كان ليعقوب النبي، عليه السلام، أخ مُؤاخ له، فقال له ذات يوم‏:‏ ما الذي أذهب بصرك وقوّس ظهرك‏؟‏ قال‏:‏ الذي أذهب بصري البكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال‏:‏ يا يعقوب، إن الله يُقرئك السلام ويقول لك‏:‏ أما تستحيي أن تشكوني إلى غيري‏؟‏ فقال يعقوب‏:‏ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله‏.‏ فقال جبريل، عليه السلام‏:‏ الله أعلم بما تشكو‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب، فيه نكارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87 - 88‏]‏

‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن يعقوب، عليه السلام، إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض، يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين‏.‏ والتحسس يكون في الخير، والتجسس يستعمل في الشر‏.‏

ونَهّضهم وبشرهم وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله، أي‏:‏ لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء، ويقطع الإياس من الله إلا القوم الكافرون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ‏}‏ تقدير الكلام‏:‏ فذهبوا فدخلوا بلد مصر، ودخلوا على يوسف،

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ‏}‏ يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام، ‏{‏وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ‏}‏ أي‏:‏ ومعنا ثمن الطعام الذي تمتاره، وهو ثمن قليل‏.‏ قاله مجاهد، والحسن، وغير واحد‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ الرديء لا يَنفُق، مثل خَلَق الغِرارة، والحبل، والشيء، وفي رواية عنه‏:‏ الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان‏.‏ وكذا قال قتادة، والُّسدي‏.‏

وقال سعيد بن جبير ‏[‏وعكرمة‏]‏ هي الدراهم الفُسُول‏.‏

وقال أبو صالح‏:‏ هو الصنوبر وحبة الخضراء‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ كاسدة لا تنفق‏.‏

وقال أبو صالح‏:‏ جاءوا بحَبِّ البُطْم الأخضر والصنوبر‏.‏

وأصل الإزجاء‏:‏ الدفع لضعف الشيء، كما قال حاتم الطائي‏:‏

ليَبْك عَلى مِلْحَانَ ضَيفٌ مُدَفَّعٌ *** وَأرمَلَةٌ تُزْجي مَعَ الليل أرمَلا

وقال أعشى بني ثعلبة‏:‏

الوَاهبُ المائةِ الهجَان وعَبدِها *** عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَها أطْفَالَها

وقوله إخبارا عنهم‏:‏ ‏{‏فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ‏}‏ أي‏:‏ أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ ‏"‏فأوقرْ ركابنا وتصدق علينا‏"‏‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏ برَدِّ أخينا إلينا‏.‏

وقال سعيد بن جبير والسدي‏:‏ ‏{‏وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا‏}‏ يقولون‏:‏ تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة، وتجوز فيها‏.‏

وسئل سفيان بن عُيُيْنَة‏:‏ هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ألم تسمع قوله‏:‏ ‏{‏فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ‏}‏ رواه ابن جرير عن الحارث، عن القاسم، عنه ‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا الحارث، حدثنا القاسم، حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود‏:‏ سمعت مجاهدا وسئل‏:‏ هل يكره أن يقول الرجل في دعائه‏:‏ اللهم تصدق علي‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89 - 92‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن يوسف، عليه السلام‏:‏ أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه، مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته، وبدره البكاء، فتعرف إليهم، يقال إنه رفع التاج عن جبهته، وكان فيها شامة، وقال‏:‏ ‏{‏هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ كيف فرقوا بينه وبينه ‏{‏إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه، كما قال بعض السلف‏:‏ كل من عصى الله فهو جاهل، وقرأ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 119‏]‏‏.‏

والظاهر -والله أعلم -أن يوسف، عليه السلام، إنما تعرف إليهم بنفسه، بإذن الله له في ذلك، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك، والله أعلم، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر، فَرَّج الله تعالى من ذلك الضيق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5، 6‏]‏، فعند ذلك قالوا‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ‏}‏‏؟‏

وقرأ أبيّ بن كعب‏:‏ ‏"‏أو أنت يُوسُفُ‏"‏، وقرأ ابن مُحَيْصِن‏:‏ ‏"‏إنَّك لأنتَ‏}‏ يُوسُفُ‏"‏‏.‏ والقراءة المشهورة هي الأولى؛ لأن الاستفهام يدل على الاستعظام، أي‏:‏ إنهم تَعجَّبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي‏}‏ ‏{‏قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة، ‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ‏}‏ يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق، والسعة والملك، والتصرف والنبوة أيضا -على قول من لم يجعلهم أنبياء -وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه‏.‏

‏{‏قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ‏}‏ يقول‏:‏ لا تأنيب عليكم ولا عَتْب عليكم اليوم، ولا أعيد ذنبكم في حقي بعد اليوم‏.‏

ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال‏:‏ ‏{‏يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏

قال السدي‏:‏ اعتذروا إلى يوسف، فقال‏:‏ ‏{‏لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ‏}‏ يقول‏:‏ لا أذكر لكم ذنبكم‏.‏

وقال ابن إسحاق والثوري‏:‏ ‏{‏لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ‏[‏الْيَوْمَ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ‏{‏يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يستر الله عليكم فيما فعلتم، ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93 - 95‏]‏

‏{‏اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ‏}‏

يقول‏:‏ اذهبوا بهذا القميص، ‏{‏فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا‏}‏ وكان قد عَميَ من كثرة البكاء، ‏{‏وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي‏:‏ بجميع بني يعقوب‏.‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ‏}‏ أي‏:‏ خرجت من مصر، ‏{‏قَالَ أَبُوهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يعقوب، عليه السلام، لمن بقي عنده من بنيه‏:‏ ‏{‏إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ‏}‏ تنسبوني إلى الفَنَد والكِبَر‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا إسرائيل، عن أبي سِنَان، عن عبد الله بن أبي الهُذَيْل قال‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ‏}‏ قال‏:‏ لما خرجت العير، هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ‏}‏ قال‏:‏ فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام‏.‏ وكذا رواه سفيان الثوري، وشعبة، وغيرهما عن أبي سِنَان، به‏.‏

وقال الحسن وابن جُرَيْج‏:‏ كان بينهما ثمانون فرسخا، وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، وسعيد بن جُبَيْر‏:‏ تُسَفّهون‏.‏

وقال مجاهد أيضا، والحسن‏:‏ تُهرّمون‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لفي خطئك القديم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمةً غليظة، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم وكذا قال السدي، وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96 - 98‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏

قال ابن عباس والضحاك‏:‏ ‏{‏الْبَشِيرُ‏}‏ البريد‏.‏

وقال مجاهد والسدي‏:‏ كان يهوذا بن يعقوب‏.‏

قال السدي‏:‏ إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كَذب، فأراد أن يغسل ذلك بهذا، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه، فرجع بصيرا‏.‏

وقال لبنيه عند ذلك‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ أعلم أن الله سيرده إليَّ، وقلت لكم‏:‏ ‏{‏إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ‏}‏‏؟‏‏.‏ فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له‏:‏ ‏{‏يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ أي‏:‏ من تاب إليه تاب عليه‏.‏

قال ابن مسعود، وإبراهيم التَّيْمِيّ، وعمرو بن قيس، وابن جُرَيْج وغيرهم‏:‏ أرجأهم إلى وقت السَّحَر‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال‏:‏ كان عمر، رضي الله عنه، يأتي المسجد فيسمع إنسانا يقول‏:‏ ‏"‏اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السَّحَرُ فاغفر لي‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود‏.‏ فسأل عبد الله عن ذلك فقال‏:‏ إن يعقوب أخَّر بنيه إلى السحر بقوله‏:‏ ‏{‏سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي‏}‏ وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة جمعة، كما قال ابن جرير‏:‏ أيضا‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيْج، عن عطاء وعِكْرِمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي‏}‏ يقول‏:‏ حتى تأتي ليلة الجمعة، وهو قول أخي يعقوب لبنيه‏.‏

وهذا غريب من هذا الوجه، وفي رفعه نظر، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99 - 100‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏

يخبر تعالى عن ورود يعقوب، عليه السلام، على يوسف، عليه السلام، وقدومه بلاد مصر، لما كان يوسف قد تقدم إلى إخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين، فتحملوا عن آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أخبر يوسف، عليه السلام، باقترابهم خرج لتلقيهم، وأمر ‏[‏الملك‏]‏ أمراءه وأكابر الناس بالخروج ‏[‏مع يوسف‏]‏ لتلقي نبي الله يعقوب، عليه السلام، ويقال‏:‏ إن الملك خرج أيضا لتلقيه، وهو الأشبه‏.‏

وقد أشكل قوله‏:‏ ‏{‏آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ‏}‏ على كثير من المفسرين، فقال بعضهم‏:‏ هذا من المقدم والمؤخر، ومعنى الكلام‏:‏ ‏{‏وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏}‏ وآوى إليه أبويه، ورفعهما على العرش‏.‏

وقد رد ابن جرير هذا‏.‏ وأجاد في ذلك‏.‏ ثم اختار ما حكاه عن السٌّدِّي‏:‏ أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما، ثم لما وصلوا باب البلد قال‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏}‏

وفي هذا نظر أيضا؛ لأن الإيواء إنما يكون في المنزل، كقوله‏:‏ ‏{‏آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ‏}‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏من أوى محدثا‏"‏ وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا مِصْرَ‏}‏ وضمَّنه‏:‏ اسكنوا مصر ‏{‏إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ مما كنتم فيه من الجهد والقحط، ويقال -والله أعلم -‏:‏ إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين قال‏:‏ ‏"‏اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف‏"‏، ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه، وأرسلوا أبا سفيان في ذلك، فدعا لهم، فَرُفِعَ عنهم بقية ذلك ببركة دعائه، عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ‏}‏ قال السدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ إنما كان أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت قديما‏.‏ وقال محمد بن إسحاق وابن جرير‏:‏ كان أبوه وأمه يعيشان‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ولم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها‏.‏ وهذا الذي نصره

هو المنصور الذي يدل عليه السياق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد‏:‏ يعني السرير، أي‏:‏ أجلسهما معه على سريره‏.‏

‏{‏وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا‏}‏ أي‏:‏ سجد له أبواه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر رجلا ‏{‏وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ التي كان قصها على أبيه ‏{‏إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏

وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى، عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجُعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى‏.‏ هذا مضمون قول قتادة وغيره‏.‏

وفي الحديث أن معاذا قدم الشام، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ما هذا يا معاذ‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عِظم حقه عليها‏"‏

وفي حديث آخر‏:‏ أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُق المدينة، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام، فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏لا تسجد لي يا سلمان، واسجد للحي الذي لا يموت‏"‏‏.‏

والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سُجَّدًا، فعندها قال يوسف‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا‏}‏ أي‏:‏ هذا ما آل إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ أي‏:‏ يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا من خير وشر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا‏}‏ أي‏:‏ صحيحة صِدْقا، يذكر نعم الله عليه، ‏{‏وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ‏}‏ أي‏:‏ البادية‏.‏

قال ابن جُرَيْج وغيره‏:‏ كانوا أهل بادية وماشية‏.‏ وقال‏:‏ كانوا يسكنون بالعَربَات من أرض فلسطين، من غور الشام‏.‏ قال‏:‏ وبعض يقول‏:‏ كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمَى، وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل‏.‏

‏{‏مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي‏}‏ ‏[‏ثم قال‏]‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ إذا أراد أمرا قيض له أسبابا ويسره وقدره، ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ‏}‏ بمصالح عباده ‏{‏الْحَكِيمُ‏}‏ في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده‏.‏

قال أبو عثمان النهدي، عن سليمان كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة‏.‏

قال عبد الله بن شداد‏:‏ وإليها ينتهي أقصى الرؤيا‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا هشام، عن الحسن قال‏:‏ كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا، ثمانون سنة، لم يفارق في الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب‏.‏

وقال هُشَيْم، عن يونس، عن الحسن‏:‏ ثلاث وثمانون سنة‏.‏

وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن‏:‏ ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، فمات وله عشرون ومائة سنة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان بينهما خمس وثلاثون سنة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ذُكر -والله أعلم -أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة -قال‏:‏ وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأن يعقوب، عليه السلام، بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه‏.‏

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ دخل بنو إسرائيل مصر، وهم ثلاثة وستون إنسانا، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا‏.‏

وقال أبو إسحاق، عن مسروق‏:‏ دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون من بين رجل وامرأة‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن عبد الله بن شداد‏:‏ اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر‏.‏ وهم ستة وثمانون إنسانا، صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏

هذا دعاء من يوسف الصديق، دعا به ربه عز وجل، لما تمت النعمة عليه، باجتماعه بأبويه وإخوته، وما مَنَّ الله به عليه من النبوة والملك، سأل ربه عز وجل، كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه‏.‏ قاله الضحاك، وأن يلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين، صلوات الله وسلامه ‏[‏عليه و‏]‏ عليهم أجمعين‏.‏

وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف، عليه السلام، قاله عند احتضاره، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع أصبعه عند الموت، ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى‏"‏‏.‏

ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا حان أجله، وانقضى عمره؛ لا أنه سأل ذلك منجزا، كما يقول الداعي لغيره‏:‏ ‏"‏أماتك الله على الإسلام‏"‏‏.‏ ويقول الداعي‏:‏ ‏"‏اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين‏"‏‏.‏

ويحتمل أنه سأل ذلك منجزًا، وكان ذلك سائغا في ملتهم، كما قال قتادة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ لما جمع الله شمله وأقر عينه، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها وغضارتها، فاشتاق إلى الصالحين قبله، وكان ابن عباس يقول‏:‏ ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف، عليه السلام‏.‏

وكذا ذكر ابن جرير والسدي عن ابن عباس‏:‏ أنه أول نبي دعا بذلك‏.‏ وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام‏.‏ كما أن نوحا أول من قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 28‏]‏ ويحتمل أنه أول من سأل نجاز ذلك، وهو ظاهر سياق قتادة، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا‏.‏

قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنيا الموت فليقل‏:‏ اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو المغيرة، حدثنا مُعُان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال‏:‏ جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَّرنا ورقَّقنا، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء، فقال‏:‏ يا ليتني مت‏!‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا سعد أعندي تتمنى الموت‏؟‏‏"‏ فردَّد ذلك ‏[‏ثلاث‏]‏ مرات ثم قال‏:‏ ‏"‏يا سعد، إن كنت خلقت للجنة، فما طال عمرك، أو حَسُن من عملك، فهو خير لك‏"‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا أبو يونس -هو سُلَيم بن جُبير -عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعوَن به من قبل أن يأتيه، إلا أن يكون قد وَثق بعمله، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا‏"‏ تفرد به أحمد‏.‏

وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به، أما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت، كما قال الله تعالى إخبارًا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهدَّدهم بالقتل قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 126‏]‏ وقالت مريم لما أجاءها المخاض، وهو الطلق، إلى جذع النخلة ‏{‏يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 23‏]‏ لما تعلم من أن الناس يقذفونها بالفاحشة؛ لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت وولدت، فيقول القائل أنى لها هذا‏؟‏ ولهذا واجهوها أولا بأن قالوا‏:‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 27، 28‏]‏ فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا، وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله، وكان آية عظيمة ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه وفي حديث معاذ، الذي رواه الإمام أحمد والترمذي، في قصة المنام والدعاء الذي فيه‏:‏ ‏"‏وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سلمة، أنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو عن عاصم عن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اثنتان يكرههما ابن آدم الموت، والموت خيرللمؤمن ‏[‏من الفتنة‏]‏ ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب‏"‏‏.‏

فعند حُلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال‏:‏ اللهمَّ، خذني إليك، فقد سئمتهم وسئموني‏.‏

وقال البخاري، رحمه الله، لما وقعت له تلك المحن وجرى له ما جرى مع أمير خراسان‏:‏ اللهم توفني إليك‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏إن الرجل ليمر بالقبر -أي في زمان الدجال -فيقول‏:‏ يا ليتني مكانك‏"‏ لما يرى من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون‏.‏

قال أبو جعفر بن جرير‏:‏ وذُكِرَ أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا، استغفر لهم أبوهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم، وغفر لهم ذنوبهم‏.‏

‏[‏ذكر من قال ذلك‏]‏‏:‏

حدثنا القاسم، حدثنا الحسن، حدثني حجاج، عن صالح المري، عن يزيد الرَّقاشي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله، وأقر عينه خلا ولدُه نجيًا، فقال بعضهم لبعض‏:‏ ألستم قد علمتم ما صنعتم، وما لقي منكم الشيخ، وما لقي منكم يوسف‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فيغرّكم عفوهما عنكم، فكيف لكم بربكم‏؟‏ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه، ويوسف إلى جنب أبيه قاعدًا، قالوا‏:‏ يا أبانا، إنا أتيناك في أمر، لم نأتك في مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله‏.‏ حتى حَرَّكوه، والأنبياء، عليهم السلام، أرحم البرية، فقال‏:‏ ما لكم يا بَنيّ‏؟‏ قالوا‏:‏ ألست قد علمت ما كان منا إليك، وما كان منا إلى أخينا يوسف‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قالوا‏:‏ أو لستما قد عَفَوتما‏؟‏ قالا بلى‏.‏ قالوا‏:‏ فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا، إن كان الله لم يعف عنا‏.‏ قال‏:‏ فما تريدون يا بني‏؟‏ قالوا‏:‏ نُريدُ أن تدعوَ الله لنا، فإذا جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عما صنعنا قرّت أعيننا، واطمأنت قلوبنا، وإلا فلا قُرّة عين في الدنيا أبدًا لنا‏.‏ قال‏:‏ فقام الشيخ فاستقبل القبلة، وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلَّة خاشعين‏.‏ قال‏:‏ فدعا وأمَّن يوسف، فلم يُجبْ فيهم عشرين سنة -قال صالح المري يخيفهم -قال‏:‏ حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل، عليه السلام، على يعقوب فقال‏:‏ إن الله بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك، وأنه قد عفا عما صنعوا، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة‏.‏

هذا الأثر موقوف عن أنس، ويزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان جدا‏.‏

وذكر السدي‏:‏ أن يعقوب، عليه السلام، لما حضره الموت، أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم وإسحاق، فلما مات صَبَّره وأرسله إلى الشام، فدفن عندهما، عليهم السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102 - 104‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏

يقول تعالى لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه، لما قص عليه نبأ إخوة يوسف، وكيف رفعه الله عليهم، وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام‏:‏ هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة، ‏{‏نُوحِيهِ إِلَيْكَ‏}‏ ونعلمك به لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك، ‏{‏وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ‏}‏ حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم ‏{‏إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ على إلقائه في الجب، ‏{‏وَهُمْ يَمْكُرُونَ‏}‏ به، ولكنا أعلمناك به وحيا إليك، وإنزالا عليك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 44‏]‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 44‏]‏إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 46‏]‏ وقال ‏{‏وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 45‏]‏ وقال ‏{‏مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 69، 70‏]‏ يقرر تعالى أنه رسوله، وأنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم؛ ومع هذا ما آمن أكثر الناس؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ وقال ‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 116‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ أي‏:‏ وما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر، أي‏:‏ من جُعَالة ولا أجرة على ذلك، بل تفعله ابتغاء وجه الله، ونصحا لخلقه‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ يتذكرون به ويهتدون، وينجون به في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105 - 107‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن ‏[‏غفلة‏]‏ أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات، في الطعوم والروائح والألوان والصفات، فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية ذي الأسماء والصفات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من إيمانهم، إذا قيل لهم‏:‏ من خلق السموات‏؟‏ ومن خلق الأرض‏؟‏ ومن خلق الجبال‏؟‏ قالوا‏:‏ ‏"‏الله‏"‏، وهم مشركون به‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعطاء وعكرمة، والشعبي، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

وهكذا في الصحيحين أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أنهم كانوا إذا قالوا‏:‏ ‏"‏لبيك لا شريك لك‏"‏ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قَدْ قَدْ‏"‏، أي حَسْبُ حَسْبُ، لا تزيدوا على هذا‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ وهذا هو الشرك الأعظم الذي يعبد مع الله غيره، كما في الصحيحين‏.‏ عن ابن مسعود قلت‏:‏ يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تجعل لله ندا وهو خَلَقَك‏"‏‏.‏

وقال الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ قال‏:‏ ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذاك، يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وثمَّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبًا فاعله، كما روى حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن عُرْوَة قال‏:‏ دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرًا فقطعه -أو‏:‏ انتزعه -ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وحسنَّهَ من رواية ابن عمر

وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الرُّقَى والتَّمائِم والتِّوَلة شرْك‏"‏‏.‏ وفي لفظ لهما‏:‏ ‏"‏‏[‏الطيَرة شرك‏]‏ وما منَّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل‏"‏‏.‏

ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن يحيى الجزار عن ابن أخي، زينب ‏[‏عن زينب‏]‏ امرأة عبد الله بن مسعود قالت‏:‏ كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت‏:‏ وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحُمْرَة فأدخلتها تحت السرير، قالت‏:‏ فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، قال‏:‏ ما هذا الخيط‏؟‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ خيط رُقِى لي فيه‏.‏ قالت‏:‏ فأخذه فقطعه، ثم قال‏:‏ إن آل عبد الله لأغنياءٌ عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك‏"‏‏.‏ قالت، قلت له‏:‏ لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت‏؟‏ قال‏:‏ إنما ذاك من الشيطان‏.‏ كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كف عنها‏:‏ إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا‏"‏‏.‏

وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن قال‏:‏ دخلنا على عبد الله بن عُكَيْم وهو مريض نعوده، فقيل له‏:‏ تَعَلَّقت شيئا‏؟‏ فقال‏:‏ أتعلق شيئا‏!‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من تَعَلَّق شيئا وُكِلَ إليه‏"‏ ورواه النسائي عن أبي هريرة‏.‏

وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من علَّق تميمة فقد أشرك‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏من تَعَّلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودَعَةً فلا ودع الله له‏"‏

وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏قال الله‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشِرْكه‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد‏:‏ من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد -يعني‏:‏ ابن الهاد -عن عمرو، عن محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أخْوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وما الشرك الأصغر يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم‏:‏ اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء‏"‏‏.‏

وقد رواه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبِيد، به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن، أنبأنا ابن لَهِيعة، أنبأنا ابن هُبَيْرة، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من ردته الطيرة عن حاجة، فقد أشرك‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما كفارة ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن يقول أحدهم‏:‏ اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي، عن أبي علي -رجل من بني كاهل -قال‏:‏ خطبنا أبو موسى الأشعري فقال‏:‏ يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دَبِيب النمل‏.‏ فقام عبد الله بن حَزْن وقيس بن المضارب فقالا والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون، قال‏:‏ بل أخرج مما قلت، خطبنا رسولالله صلى الله عليه وسلم ‏[‏ذات يوم‏]‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل‏"‏‏.‏ فقال له من شاء الله أن يقول‏:‏ فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا‏:‏ اللهم إنا نعوذ بك ‏[‏من‏]‏ أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه‏"‏‏.‏

وقد روي من وجه آخر، وفيه أن السائل في ذلك هو الصّدّيق، كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي، من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن لَيْث بن أبي سليم، عن أبي محمد، عن مَعْقِل بن يَسَار قال‏:‏ شهدت النبي صلى الله عليه وسلم -أو قال‏:‏ حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل‏"‏‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا أدلّك على ما يُذهب عنك صَغِير ذلك وكبيره‏؟‏ قل‏:‏ اللهم، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم‏"‏‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي، عن شيبان بن فَرُّوخ، عن يحيى بن كثير، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، فكيف النجاة والمخرج من ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئتَ من قليله وكثيره وصغيره وكبيره‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ بلى، يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ اللهم، إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم‏"‏‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ يحيى بن كثير هذا يقال له‏:‏ ‏"‏أبو النضر‏"‏، متروك الحديث‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه، والنسائي، من حديث يعلى بن عطاء، سمعت عمرو بن عاصم سمعت أبا هريرة قال‏:‏ قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله، علمني شيئا أقوله إذا أصبحتُ، وإذا أمسيتُ، وإذا أخذت مضجعي‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه‏"‏‏.‏

وزاد أحمد في رواية له من حديث ليث من أبي سليم، ‏[‏عن مجاهد‏]‏ عن أبي بكر الصديق قال‏:‏

أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره‏:‏ ‏"‏وأن أقترف على نفسي سُوءًا أو أجُرّه إلى مسلم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ أفأمن هؤلاء المشركون ‏[‏بالله‏]‏ أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 45 -47‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 97 -99‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏

يقول ‏[‏الله‏]‏ تعالى لعبد ورسوله إلى الثقلين‏:‏ الإنس والجن، آمرًا له أن يخبر الناس‏:‏ أن هذه سبيله، أي طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بَصِيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكلّ من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسُبْحَانَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ وأنزه الله وأجلّه وأعظّمه وأقدّسه، عن أن يكون له شريك أو نظير، أو عديل أو نديد، أو ولد أو والد أو صاحبة، أو وزير أو مشير، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه عن ذلك كله علوا كبيرا، ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه إنما أرسلَ رسُلَه من الرجال لا من النساء‏.‏ وهذا قول جمهور العلماء، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة‏:‏ أن الله تعالى لم يُوحِ إلى امرأة من بنات بني آدم وَحي تشريع‏.‏

وزعم بعضهم‏:‏ أن سارة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ‏}‏ الآية‏.‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى، عليه السلام، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 42، 43‏]‏‏.‏

وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك، فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف، فهذا لا شك فيه، ويبقى الكلام معه في أن هذا‏:‏ هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا‏؟‏ الذي عليه ‏[‏أئمة‏]‏ أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم‏:‏ أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات، كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريمَ بنت عمران حيث قال‏:‏ ‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏ فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدّيقية، فلو كانت نبيّة لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏}‏ أي‏:‏ ليسوا من أهل السماء كما قلتم‏.‏ وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8، 9‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏}‏ المراد بالقرى‏:‏ المدن، لا أنهم من أهل البوادي، الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا‏.‏ وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرقّ طباعا، وألطف من أهل سوادهم، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏}‏ لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة، فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لقد هممت ألا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دَوْسِي‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال الأعمش‏:‏ هو ‏[‏ابن‏]‏ عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ‏}‏ ‏[‏يعني‏:‏ هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض،‏]‏ ‏{‏فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ من الأمم المكذبة للرسل، كيف دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها، كقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏، فإذا استمعوا خبر ذلك، رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏ أي‏:‏ وكما أنجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة أيضًا، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50، 51‏]‏‏.‏

وأضاف الدار إلى الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الآخِرَةِ‏}‏ كما يقال‏:‏ ‏"‏صلاة الأولى‏"‏ و‏"‏مسجد الجامع‏"‏ و‏"‏عام الأول‏"‏ و‏"‏بارحة الأولى‏"‏ و‏"‏يوم الخميس‏"‏‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتذمّ عَبْسًا *** ألا لله أمَّكَ من هَجين

وَلو أقْوتْ عَلَيك ديارُ عَبْسٍ *** عَرَفْتَ الذّلّ عرْفانَ اليَقين

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏

يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏كُذِبُوا‏}‏ قراءتان، إحداهما بالتشديد‏:‏ ‏"‏قد كُذِّبُوا‏"‏، وكذلك كانت عائشة، رضي الله عنها، تقرؤها، قال البخاري‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، بن صالح، عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ‏}‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ أكُذِبوا أم كُذِّبوا‏؟‏ فقالت عائشة‏:‏ كُذِّبوا‏.‏ فقلت‏:‏ فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن‏؟‏ قالت‏:‏ أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك‏.‏ فقلت لها‏:‏ وظنوا أنهم قد كذبوا‏؟‏ قالت معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها‏.‏ قلت‏:‏ فما هذه الآية‏؟‏ قالت‏:‏ هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ‏}‏ ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك‏.‏

حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري قال‏:‏ أخبرنا عُرْوَة، فقلت‏:‏ لعلها قد كُذِبوا مخففة‏؟‏ قالت‏:‏ معاذ الله‏.‏ انتهى ما ذكره‏.‏

وقال ابن جُرَيْج أخبرني ابن أبى مُلَيْكة‏:‏ أن ابن عباس قرأها‏:‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ خفيفة -قال عبد الله هو ابن مُلَيْكة‏:‏ ثم قال لي ابن عباس‏:‏ كانوا بشرًا وتلا ابن عباس‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، قال ابن جريج‏:‏ وقال لي ابن أبي مليكة‏:‏ وأخبرني عروة عن عائشة‏:‏ أنها خالفت ذلك وأبته، وقالت‏:‏ ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم‏.‏ قال ابن أبي مليكة في حديث عروة‏:‏ كانت عائشة تقرؤها ‏"‏وظنوا أنهم قد كُذِّبوا‏"‏ مثقلة، للتكذيب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال‏:‏ جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال‏:‏ إن محمد بن كعب القرظي يقول هذه الآية‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ فقال القاسم‏:‏ أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ تقول‏:‏ كذبتهم أتباعهم‏.‏ إسناد صحيح أيضا‏.‏

والقراءة الثانية بالتخفيف، واختلفوا في تفسيرها، فقال ابن عباس ما تقدم، وعن ابن مسعود، فيما رواه سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق، عن عبد الله أنه قرأ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ مخففة، قال عبد الله‏:‏ هو الذي تكره‏.‏

وهذا عن ابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهما، مخالف لما رواه آخرون عنهما‏.‏ أما ابن عباس فروى الأعمش، عن مسلم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ قال‏:‏ لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم، جاءهم النصر على ذلك، ‏{‏فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ‏}‏

وكذا روي عن سعيد بن جبير، وعمران بن الحارث السلمي، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس بمثله‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة الجزرِيّ قال‏:‏ سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له‏:‏ يا أبا عبد الله، كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظن المرسَلُ إليهم أن الرسل كَذَبوا‏.‏ فقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ‏!‏ لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا‏.‏

ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر‏:‏ أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال‏:‏ فرَّج الله عنك كما فَرجت عني‏.‏

وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد بن جَبْر، وغير واحد من السلف، حتى إن مجاهدا قرأها‏:‏ ‏"‏وظنوا أنهم قد كَذَبوا‏"‏، بفتح الذال‏.‏ رواه ابن جرير، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ إلى أتباع الرسل من المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم، أي‏:‏ وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا -مخففة -فيما وعدوا به من النصر‏.‏

وأما ابن مسعود فقال ابن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن فضيل عن جَحش بن زياد الضبي، عن تميم بن حَذْلَم قال‏:‏ سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ‏}‏ من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا، بالتخفيف‏.‏

فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك، وانتصر لها ابن جرير، ووجه المشهور عن الجمهور، وزيف القول الآخر بالكلية، وردَّهُ وأبَاه، ولم يقبله ولا ارتضاه، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين ‏{‏عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ‏}‏ وهي العقول، ‏{‏مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى‏}‏ أي‏:‏ وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، أي‏:‏ يكذب ويُختلق، ‏{‏وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ من الكتب المنزلة من السماء، وهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، ‏{‏وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور على الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات، فلهذا كان‏:‏ ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلالة إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد‏.‏ فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، يوم يفوز بالربح المُبْيَضَّة وجوههم الناضرة، ويرجع المسودَّة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة‏.‏

آخر تفسير سورة يوسف، ولله الحمد والمنة وبه المستعان وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏